سيارة الـ”فولكس فاغن” التي دمرت لبنان وقتلت ربع مليون من شعبه

كيف أدت حادثة بسيطة، تمثلت في منع سيارة فولكس فاغن من المرور، إلى إشعال شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، ذلك الانفجار الذي دام 15 عاما، وأثره على مستقبل لبنان

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

تشهدون حال لبنان اليوم، ووقوفه على بعد خطوة من السقوط والانهيار. تشهدون دور إيران وحزب الله، وتسمعون عن الانقسام، وتعرفون الحرب الأهلية وتفاصيلها، وتعلمون عدد ضحاياها والمجازر التي ارتُكبت خلالها. وسمعتم عن “ملوك الطوائف” اللبنانيين، وتدخلات سوريا وإسرائيل، والكثير الكثير. لكن ربما كثير منكم لا يعلم أن كل هذا بدأ بسبب سيارة “فولكس فاغن” أرادت المرور، ولم يُسمح لها بالعبور. فتعالوا معنا إلى حلقة جديدة من “أثر الفراشة”… التي دمّرت لبنان، وربما إلى الأبد.

في صباح يوم الثالث عشر من نيسان/أبريل عام 1975، كان يوماً ربيعياً عادياً في لبنان، مناسباً للخروج واستنشاق هواءٍ عليل تحت شمس معتدلة، بعد شتاء بارد قارس كعادة شتاء لبنان. ولأن هذا الجو كان احتفالياً، كان من المقرر أن يفتتح أحد زعماء الموارنة مبنى لكنيسة جديدة في منطقة تُدعى عين الرمانة، الواقعة في ضواحي بيروت الشرقية، وتُعتبر جزءاً من قضاء بعبدا ضمن محافظة جبل لبنان.

ودعونا نذكّر من لا يعلم: الموارنة هم أكبر طائفة مسيحية في لبنان، وأحد زعمائهم في ذلك الوقت، الذي نتحدث عنه الآن، هو شخص يُدعى بيار الجميّل. بيار الجميّل كان المدعو لافتتاح كنيسة “سيدة الجبل” الجديدة في عين الرمانة. وبما أنه زعيم مهم (وسنعود لاحقاً لشرح السبب)، كان برفقته عدد كبير من حراسه ومناصريه، الذين أغلقوا الشارع المؤدي إلى الكنيسة – وهذا مفهوم.

وأثناء عملية الإغلاق، اقتربت سيارة من نوع “فولكس فاغن” يقودها شاب يُدعى أحمد ناصر، وطلب المرور. لكن الحراس ومناصري الجميّل رفضوا، فحدثت مشادة كلامية، تلاسن، وشتائم وتهديدات، دفعت الحراس لإطلاق النار على السيارة وسائقها، فأصيب بجراح لم يُعرف مدى خطورتها آنذاك، ونُقل إلى أحد المستشفيات القريبة.


الروايات المتعددة لحادثة إطلاق النار

وهنا نتوقف لحظة. فبعد هذه الحادثة، تعددت الروايات. رواية حزب الكتائب – أي أنصار بيار الجميّل – قالت إن السائق حاول اختراق التجمع بالقوة، وإنه كان عنصراً تابعاً للكفاح المسلح، وهم من أنصار منظمة التحرير الفلسطينية، وأنهم ذهبوا للمستشفى للتحقيق بمساعدة الأمن الرسمي، لكنهم لم يجدوه في مستشفى القدس، التابع للمنظمة، وقالوا بالحرف: “لقد تبخّر”.

أما الرواية الثانية، فهي رواية منظمة التحرير، التي تقول إن كل ما حدث كان ملفقاً، وإن رواية حزب الكتائب جاءت لتبرير ما حصل لاحقاً من جرائم. وسنخبركم بالتأكيد بما حدث لاحقاً، لكن دعونا نكمل القصة. فبعد إطلاق النار على سيارة الفولكس فاغن، وبعد أقل من ساعة بحسب بعض الروايات، جاءت سيارة “فيات” تقل أربعة مسلحين محسوبين على المنظمة الفلسطينية، ربما بدافع الانتقام لصديقهم الذي قيل إنه فارق الحياة. وبدأوا بإطلاق النار على المتجمعين قرب الكنيسة – من حزب الكتائب – فسقط عدد من القتلى، من بينهم شخص يُدعى جوزيف أبو عاصي، وكان مرافقاً لبيار الجميّل.

وهنا نتوقف لنتحدث عن بيار الجميّل وحزب الكتائب، باختصار: لبنان كان تحت الانتداب الفرنسي، وكان الحكم فيه للمسيحيين، خصوصاً الموارنة، مع مشاركة خجولة لبقية الطوائف. لكن من بقي في الحكم من المسيحيين بعد خروج الفرنسيين، حاولوا موازنة الداخل اللبناني بإعطاء المسلمين حصة أكبر.

“قد يهمك: كيف تخطط أوروبا لحماية نفسها دون أمريكا


من هو بيار الجميل؟ وتاريخ حزب الكتائب

لنعد إلى منتصف الثلاثينيات: كان هناك شاب لبناني يُدعى بيار الجميّل، لاعب كرة قدم في المنتخب اللبناني، وشارك في مباريات خارجية في أوروبا. وخلال زيارته لألمانيا وإيطاليا، أعجبته الأفكار الفاشية، القائمة على القومية، فأسس منتصف الثلاثينيات تنظيماً صغيراً أسماه “الكتائب اللبنانية”. وظل هذا التنظيم على الهامش حتى عام 1958، حين دخلت سوريا في وحدة مع مصر بقيادة عبد الناصر، الذي حاول ضم لبنان. ردّاً على ذلك، دعمت أمريكا رئيس لبنان آنذاك كميل شمعون، وحدثت انتفاضة، وتدخلت قوات المارينز الأمريكية، وكاد لبنان ينفجر، لكن تم احتواء الأزمة.

لاحقاً، تنحى شمعون، وجاء فؤاد شهاب، فسطع نجم الكتائب بعد مشاركته في حماية ما سماه “الحق المسيحي في الحكم”. ثم في عام 1969، وقّعت الدولة اللبنانية اتفاقاً مع ياسر عرفات، سمح بعمل الفصائل الفلسطينية في لبنان. هذا الاتفاق أغضب اليمين اللبناني، وعلى رأسه حزب الكتائب، الذي اعتبر أن الفلسطينيين أصبحوا “دولة داخل الدولة”، فتصاعد التوتر والخطاب العدائي. وهكذا، ومع مطالب الطوائف الأخرى بالمشاركة في الحكم، وخشية المسيحيين من فقدان نفوذهم، إضافة إلى التدخلات الإقليمية (سوريا، العراق، إسرائيل)، أصبح الوضع متوتراً، بانتظار شرارة.

والشرارة كانت في 13 نيسان 1975. بعد حادثة الفولكس فاغن والفيات، شاع بين المسيحيين أن زعيمهم تعرّض لمحاولة اغتيال، فحمل كثير منهم السلاح. وبينما كانت مجموعة فلسطينية في طريق عودتها من تشييع أحد عناصرها من مخيم شاتيلا – وبعضهم كان يحمل السلاح والأعلام – مرّت حافلتهم قرب الكنيسة. اعترضها مسلحو الكتائب، وعندما تأكدوا أن السائق والمرافق لبنانيان، أنزلوهما، وأبقوا 27 راكباً فلسطينياً داخل الحافلة، ثم أمطروهم بالرصاص، في ما يشبه الإعدام الميداني.

“قد يهمك: عقوبات أمريكية على Garantex لوقف تمويل الحوثيين

“قد يهمك: كيف تستطيع الصين غزو تايوان دون إطلاق رصاصة واحدة


خسائر الحرب الأهلية اللبنانية وآثارها المستمرة

حادثة كانت فاجعة، وسرعان ما انتشرت أخبارها في كل لبنان. بدأت سلسلة الانتقام والثأر، وانفجرت الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من 1975 حتى 1990. لن نغوص في تفاصيل الحرب، فكثير منكم يعرفها. لكن نذكّركم بحصيلتها:” قُتل ما يقارب ربع مليون إنسان، بين مدنيين ومقاتلين، وقُسم لبنان طائفياً، وشرّعت الحرب التدخل السوري، وفتحت الباب لإسرائيل لاحتلال نصف لبنان عام 1982، ومهّدت الطريق لدخول إيران عبر الطائفة الشيعية، مما أدى إلى ولادة “حزب الله”.

هي الحرب التي شهدت مجازر مروعة، أشهرها مجزرة صبرا وشاتيلا، وهي التي أفقدت المسيحيين سلطتهم، وجعلت حزب الله أقوى من الجيش، وهي التي خلقت طبقة زعمات جديدة، منهم من اغتيل، ومنهم من نُفي، ومنهم من سُجن. وما زال لبنان حتى اليوم يدفع ثمن تلك الحرب، وهو يقف على عتبة مرحلة مفصلية جديدة، قد تقوده إلى الانهيار أو إلى مستقبل آخر. كل هذا ربما لم يكن ليحدث… لولا سيارة الفولكس فاغن التي أرادت المرور، ولم يُسمح لها. توقفت عجلاتها، وتوقفت معها عجلة الزمن اللبناني، ليبدأ عصر الحرب، والدم، والبارود.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد